الثلاثاء، 18 مارس 2014

حقيقة الكتاب المقدس


حقيقة الكتاب المقدس  

———————–


قبل أن نبدأ حديثنا عن حقيقة الكتاب المقدس لابد وأن نتوقف قليلاً أمام أقسامه ونتعرف على تكوينه.
والكتاب المقدس يتكون من قسمين رئيسين هما : العهد القديم والعهد الجديد.
و”العهد القديم”: اسم أطلقه المسيحيون الأوائل على الأسفار المقدسة لدى اليهود؛ ليشيروا بذلك إلى أن هناك عهدًا آخر جديدًا يتكون من الأسفار المسيحية

  

(الأناجيل الأربعة: متى، لوقا، مرقس، يوحنا، وبعض الرسائل والرؤى المقدسة لديهم).
أما هذه التسمية فيرفضها اليهود ويسمون أسفارهم التي يؤمنون بها: (التوراة، الأنبياء، الكتابات).
و التوراة: كلمة عبرية معناها الشريعة وتتكون من خمسة أسفار هي:

(التكوين، الخروج، التثنية، الأحبار أو اللاويين، العدد).
وبعد التوراة يأتي القسم الثاني من العهد القديم وهو الأنبياء؛ وهذا القسم يسير في نسق تاريخي متصل مع التوراة ويتحدث عن أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام.
ثم تأتي بعد ذلك الكتابات أو كتب الحكمة: وهي مجموعة كتابات يغلب عليها الطابع الأدبي، ولا علاقة لها بالسرد التاريخي.
ويؤمن المسيحيون بالكتاب المقدس كله بعهديه القديم والجديد وإن ترددت كل فرقة من فرقهم في الإيمان ببعض أسفاره وببعض أجزائها من عصر إلى آخر.
أما اليهود فمنهم من يؤمن بالتوراة فقط، ومنهم من يؤمن بالعهد القديم كله على تردد بينهم أيضًا في الإيمان ببعض أسفاره وبعض أجزائها من عصر إلى آخر.
ومن ثمة فكل طعن في أي سفر من أسفار العهد القديم يعد طعنًا في دين كل من يؤمن به من اليهود والنصارى؛ أما الطعن في أي سفر من أسفار العهد الجديد فهو طعن في دين من يؤمن به وهم من النصارى فقط.
إشكالية تدوين الكتاب المقدس :
يزعم بعض من رجال الدين اليهودي والمسيحي أن أسفارهم المقدسة – والتي هي بحوزتهم الآن – وحي إلهي، معصومة من الخطأ، محفوظة من التحريف.
وهي دعوى باطلة؛ فليس في مخطوطات الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد مخطوط واحد بخط المؤلف نفسه.
بل إن أقدم نسخ وصلت عصرنا هذا للعهد الجديد كتبت في القرن الرابع من ميلاد المسيح عليه السلام.
ولا يتعدى تاريخ أقدم مخطوطات العهد القديم التي وصلت عصرنا هذا القرن التاسع الميلادي، أي بعد وفاة موسى عليه السلام بأكثر من ألفي عام.
وليس بمقدور أحد في عصرنا الراهن أن يحدد بالضبط تاريخ تدوين كل سفر من أسفار الكتاب المقدس، ولا يعلم أحد في أيدي من وقعت هذه الأسفار قبل أن تصل إلى عهدنا هذا؟! . . وما عدالة من وقعت تحت يده؟! . . وهل هو محب للدين أم عدو له؟! . . وممن جاءت أقدم مخطوطات الكتاب المقدس والتي وجد لها عدد من النسخ المتباينة؟! . . فليس على وجه الأرض إنسان يروي سفرًا من أسفار الكتاب المقدس عدلا عن عدل؛ بل إن البشرية في عصرنا هذا تجهل تمامًا مؤلفي كثير من أسفار الكتاب المقدس، ومن ناحية أخرى لا يدري أحد في أية مناسبة وفي أي مكان كتبت هذه الأسفار التي لا يعرف أحد مؤلفيها الحقيقيين.
فبالنسبة لأسفار موسى الخمسة مثلا وهي أهم جزء في العهد القديم، بل والجزء الوحيد في الكتاب المقدس الذي يجمع على الإيمان به كل من اليهود والنصارى بفرقهم المختلفة يرى ابن عزرا أن كاتبها  إنسان آخر عاش بعد موسى- عليه السلام- بمدة طويلة، ويعلل ذلك بأمور منها: إن سفر موسى كان مكتوبًا على حائط المعبد الذي لم يتجاوز اثني عشر حجرًا؛ أي أن السفر كان أصغر بكثير مما لدينا الآن، وإن الأسفار مكتوبة بضمير الغائب لا بضمير المتكلم، كما إن الرواية مستمرة في الزمان حتى بعد وفاة موسى – عليه السلام- .
بل إن نص التوراة الذي يذكر خبر وفاة موسى- عليه السلام- : “فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب ودفنه في الجواء في أرض موآب مقابل بيت فغور، ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم” سفر التثنية.  هذا النص لا يكشف لنا فقط عن أن موسى عليه السلام ليس هو كاتبه بقدر ما يكشف لنا أنه عليه السلام قد مات قبل كتابته بزمن طويل اجتاحته كثير من الأحداث كانت بلا شك كافية لضياع الشريعة كما كانت كافية لأن لا يعرف أحد مكان قبر صاحب الشريعة – عليه السلام- عند كتابة ذلك النص من التوراة رغم محاولة النص تحديد المكان بدقة بأنه في الجواء في أرض موآب مقابل بيت فغور.
ومن ثمة تعلل نسبة هذه الأسفار الخمسة لموسى – عليه السلام- لا لأنه كاتبها ولكن لأنه الشخصية الرئيسة التي يدور حولها السفر كله، وكذلك الحال بالنسبة لباقي أسفار الكتاب المقدس.
وبالنسبة للعهد الجديد فإن عدم نسبة أي سفر من أسفاره إلى عيسى – عليه السلام-  من الأمور التي لا خلاف عليها، ولا يمكن بالطبع أن يكون عيسى – عليه السلام- هو الذي كتب قصة الصلب وما تلاها من أحداث كما هو موجود في الإنجيل.

إشكالية نسخ الكتاب المقدس وترجمته :
                                                                                                                          
أضف إلى ذلك أن اليهود والنصارى لا يملكون – في عصرنا الراهن-  كثيرًا من أسفار كتابهم المقدس في لغتها الأصلية: لا في لغة وحيها، ولا حتى في لغة كاتبها، بل إنهم ليسوا على يقين من اللغة  الأصلية التي كتبت بها بعض الأسفار.
وجل ما لديهم من أسفار مقدسة إنما هي تراجم، والترجمة بإجماع المتخصصين ما هي إلا انعكاس لفهم المترجم للنص، أي هي نوع من التفسير، ولا يمكن لأية ترجمة مهما كانت دقتها أن تنقل جميع دلالات النص الأصلي القريبة والبعيدة، فلكل لغة خصائصها الفريدة؛ فاللغة اليونانية مثلا والتي وجد بها كثير من مخطوطات الكتاب المقدس المهمة والفريدة، لم تكن أمينة في نقل ألفاظ اللغة العبرية: لغة عيسى وأنبياء العهد القديم عليهم السلام أجمعين؛ فهذه اللغة غير قادرة على نقل الحروف الحلقية والحنجرية، كما أنها لا تميز الحروف الصافرة والمسرة في اللغات السامية مما نشأ عنه خلط كبير في الأسماء.
ثم إن الكلمة في اللغة قد تحمل أكثر من معنى وظل للمعنى، والترجمة إنما تأتي بلفظ ليعبر عن أحد هذه المعاني فقط – وهو ما يرشحه السياق من وجهة نظر المترجم- ولا يمكن أن يعبر عنها جميعًا؛ وإذا به يعبر عنه وعن معان أخرى وظلال معنوية جديدة، وربما أخذ أحد هذه المعاني الجديدة ليترجم مرة أخرى إلى لغة أخرى بلفظ يعبر عنه وعن معان جديدة أيضًا وظلال أخرى للمعنى وهكذا، ومع كثرة الترجمة عن لغة من لغة إلى لغة تبعد العلاقة بين النص الأصلي والنص النهائي مهما كان حرص المترجم.
وربما كان ذلك سبب اختلاف كثير من تراجم الكتاب المقدس حتى في أهم الموضوعات العقدية؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ فالمقام لا يتسع إلا للتمثيل فقط: الفقرة (13) في الأصحاح (21) من سفر إشعياء والتي يرى فيها كثير من المسلمين بشارة بالنبي العربي محمد – صلى الله عليه وسلم- نجدها هكذا في التراجم

اليهودية والمسيحية المختلفة:
1- “وحي من جهة بلاد العرب”. . وهي ترجمة جمعية الكتاب المقدس في الشرق الأدنى.
2- ” نبوءة بشأن شبه الجزيرة العربية”. . وهي ترجمة كتاب الحياة المطبوع مع التفسير التطبيقي للكتاب المقدس.
3- “قول على العربة”. . وهي ترجمة طبعة دار المشرق اعتماد بولس باسيم.
4- “THE BURDEN UPON ARABIA”. .  أي “عبء أو عناء على جزيرة العرب” وهي ترجمة نسخة الملك جيمس KING JAMES VERSION.
5- AN ORACLE CONCERNING ARABIA”" . . أي “وحي أو مبلغ الوحي أو مكان مهبط الوحي متعلق ببلاد العرب”، وهي الترجمة العالمية الجديدة الصادرة عن جمعية الكتاب المقدس العالمية NEW  INTERNATIONAL VERSION.
6- A MESSAGE ABOUT ARABIA”" . . أي “رسالة عن بلاد العرب”، وهي ترجمة نسخة انجليزية اليوم TODAY’S ENGLISH VERSION .
7- MESSAGE INTITULE: DANS LA STEPPE” “  أي رسالة بعنوان في”الفيفاء” وإن كان السياق بعد ذلك يعين أن الحديث عن بلاد العرب التي يسكنها بنو قيدار، وهي ترجمة الجمعية الكتابية الفرنسية.
8- وفي التوراة العبرية: “משא בּﬠרב: مسّا بعراف”. .أي “قول أو نبوءة بجزيرة العرب”.
ومن ثم يتبن لنا أن كل تراجم الكتاب المقدس – بعهديه القديم والجديد – التي ظهرت حتى الآن ليست سوى عون على فهم النص الأصلي لا أكثر.
ثم إن النسخ الأولى للكتاب المقدس – كما يصرح مدخل العهد الجديد من الترجمة الفرنسية المسكونية للكتاب المقدس-:”نسخت ثم فقدت، ثم نسخت النسخ طوال قرون كثيرة بيد نسّاخ صلاحهم للعمل متفاوت، وما من واحد منهم معصوم من مختلف الأخطاء التي تحول دون أن تتصف أية نسخة كانت مهما بذل فيها من الجهد بالموافقة التامة للمثال الذي أخذت عنه”.
ثم يذكر مدخل العهد القديم  من الترجمة السابقة الذكر للكتاب المقدس بعض أمثلة تبين كيف كان الخطأ في النسخ يحصل؛ فيقول: إنه قد يحدث أن “تقفز عين الناسخ من كلمة إلى كلمة تشبهها …..ترد بعد بضعة أسطر مهملة كل ما يفصل بينهما، ومن المحتمل أيضًا أن تكون هناك أحرف كتبت كتابة رديئة فلا يحسن الناسخ قراءتها فيخلط بينها وبين غيرها، وقد يدخل الناسخ في النص الذي ينقله لكن في مكان خاطئ تعليقًا هامشيًا يحتوي على قراءة مختلفة أو على شرح ما”.
بل إن مدخل العهد القديم من تلك الترجمة السابقة الذكر يصرح بأن بعض النسّاخ الأتقياء قاموا بإدخال تصحيحات على بعض التعابير التي كانت تبدوا لهم محتوية على أخطاء واضحة أو قلة دقة في التعبير اللاهوتي؛ وهو اعتراف بأن في الكتاب المقدس أخطاء وتغيير وتبديل .
وإضافة إلى ذلك – كما يصرح ذلك المدخل للكتاب المقدس- فإن الاستعمال لكثير من الفقرات في أثناء إقامة شعائر العبادة أدى أحيانًا كثيرة إلى إدخال زخارف لفظية غايتها تجميل النص.
ومن الواضح أن ما أدخله النسّاخ من التبديل على مر القرون تراكم بعضه على بعض؛ فكان النص الذي وصل في آخر الأمر إلى عهد الطباعة مثقلا بمختلف ألوان التبديل، ظهرت في عدد كبير من القراءات مختلفة الأهمية، كما ظهرت في آثار التصليح والتعديل المصرة على البقاء حتى في أهم مخطوطات الكتاب المقدس، وظهرت كذلك في أخطاء النحو والإملاء، وفصل الكلام ووصله، وتكرار الكلمة بل والسطر والفقرة، وظهرت في تفكك الأسلوب وركاكة العبارة وغموضها؛ مما تأدى في النهاية إلى التحريف المعنوي أيضًا.
ونتيجة كل هذا  يعترف مدخل الكتاب المقدس من تلك الترجمة السابقة الذكر معلنًا: “إننا لم نعد متأكدين مطلقًا من أننا نتلقى كلمة الله بقراءة الكتاب المقدس؛ وكل ما يستطيع علم نقد النصوص الحديث أن يقدمه لنا هو محاولته لإعادة بناء نص يتمتع بأكبر الفرص الممكنة في أن يقترب من النص الأصلي، ولا يرجى في حال من الأحوال الوصول إلى الأصل نفسه”.
  الكتاب المقدس وموقفه من القول بعصمته :
         ثم إن مسألة تحريف الكتاب المقدس قد غدت في عصرنا اليوم مسألة مثبتة مبرهن عليها بشتى أنواع البراهين.
 وإذا كان الاعتراف سيد الأدلة وأقوى البراهين وأولاها بالقبول؛ فإن الكتاب المقدس – بعهديه القديم والجديد-  يشهد صراحة على تحريفه في كثير من المواضع، ولا يتسع مقامنا هنا إلا للتمثيل لذلك:
ففي المزمور 56 من سفر المزامير ورد على لسان الرب ” ماذا يصنعه بي البشر؟! اليوم كله يحرفون كلامي على كل أفكارهم بالشر”!!!.
وفي سفر إشعياء ورد على لسان إشعياء عليه السلام مقرّعًا بني إسرائيل قائلا لهم:”يا لتحريفكم”!!!.
وفي سفر إرميا ورد على لسان الرب مخاطبًا بني إسرائيل:”أما وحي الرب فلا تذكروه بعد؛ لأن كلمة كل إنسان تكون وحيه، إذ قد حرفتم كلام الإله الحي رب الجنود إلهنا”.
وفيه أيضًا ورد على لسان الرب:”كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا ؟!. إن قلم الكتبة الكاذب حولها إلى الكذب “. . وقوله “قلم الكتبة” يبين أن التحريف في المنزل لا في المتأوّل فقط كما يزعم بعض علماء أهل الكتاب.
بل إن الشهادة على التحريف هذه لا يقتصر وجودها على أسفار الكتاب المقدس بل تمتد لتشمل كل الكتابات المقدسة في اليهودية والمسيحية؛ ففي رسالة عبدة الأوثان من التلمود البابلي في الفصل الأول من غمارا المشنا السادسة يقول الحاخام حسدا لأبمي :”لدينا تقليد يقول إن رسالة عبدة الأوثان لأبينا إبراهيم كانت تشمل أربعمائة فصل لكننا لا نمتلك منها سوى خمسة فقط وحتى هذه لا نعتبرها مفهومة تمامًا”.
وفي سفر الخمسينات من مخطوطات البحر الميت ورد على لسان الرب مخاطبًا موسى عليه السلام عن بني إسرائيل قائلا: “سينسون شريعتي كلها ووصاياي كلها وأحكامي كلها”.
وتحت وطأة ضغط العقل والعلم في عصرنا هذا اضطر عديد من علماء الكتاب المقدس إلى الاعتراف بعدم عصمته.
يقول فيليب شاف في مقارنته بين العهد الجديد باليونانية وبين الترجمة الإنجليزية: “إن 400 قراءة فقط من 150 ألفًا من القراءات المختلفة للعهد الجديد تشكل الشك في المعنى منها خمسون فقط لها أهمية عظيمة”. . فصدق الله العظيم القائل في كتابه الكريم: “وتحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم”. النور:15.
ويقول د/ وليام رالف إنج في كتابهTHE CHURCH IN THE WORLD: “إنه لمن الواجب علينا أن نتخلى عن فكرة المعصومين: الكنيسة المعصومة، والكتاب المعصوم؛ فليست واحدة منهما بالصحيحة”.
وحديثًا أعلن الفرع الرئيسي للكنيسة المشيخية في الولايات المتحدة الأمريكية: أنه لا يعتبر الكتاب المقدس منزهًا عن الخطأ. راجع صحيفة النيويورك تايمز عدد 25 لسنة 1966م.
وهذا الأمر يدخلنا في الواقع إلى لب الموضوع؛ فإذا كان الكتاب المقدس بوضعه الحالي هو كلمة الله تعالى – كما يزعمون- وكان غير منزه عن الخطأ – كما يعترفون- فإما أن يكون الله تعالى غير منزه عن الخطأ باعتباره مصدر الخطأ في الكتاب المقدس، وفي ذلك طعن في ألوهيته تعالى يتأدى إلى بطلان جميع الشرائع؛ وإما أن يكون الله تعالى منزهًا عن الخطأ ومن ثمة ترجع أخطاء الكتاب المقدس إلى تحريف البشر وهذا ما يختاره الكتاب المقدس نفسه؛ يقول بولس الرسول  في رسالته إلى أهل رومية: ” إن كان قوم غير أمناء، فهل عدم أمانتهم يبطل أمانة الله ؟ حاشا ! بل ليكن الله صادقًا وكل إنسان كاذبًا”.
وبناء على ذلك يكون البشر في حاجة إلى كلمة أخرى من الله تعالى بعد الكتاب المقدس، وهذا منطق العقل كما أنه منطق الكتاب المقدس نفسه والذي يعلنه بوضوح: “لو كان ذلك الأول بلا عيب لما طلب موضع لثان” الرسالة إلى العبرانيين. ويؤكد عليه بقوله: “إنه يصير إبطال الوصية السابقة من أجل  ضعفها وعدم نفعها” السابق. ويعلله بـ “أن الله ليس إله تشويش بل إله سلام ” الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس .
الكتاب المقدس وموقف كتبته من القول بعصمته :
ومما يؤكد بطلان دعوى أن أسفار الكتاب المقدس وحي إلهي، معصومة من الخطأ، محفوظة من التحريف؛ أنها دعوى لا يقرها كتبة العهد الجديد أنفسهم؛ بل يعارضونها إيماءً وتصريحًا مقرين بخالص بشرية عملهم.
فها هو “لوقا” في مستهل إنجيله يصرح قائلا: “إذا كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخدامًا للكلمة رأيت أنا أيضًا إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز “ثاوفيلس” لتعرف صحة الكلام الذي علمت به”.
فـ “لوقا” يقرر هنا أنه واحد من كثيرين قاموا بنفس هذا العمل وهو تأليف قصة، وأن هذه القصة ما هي إلا مجموعة رسائل يبعث بها على التوالي إلى صديقه “ثاوفيلس”.
ويقرر “لوقا” كذلك أنه هو وهم لم يكونوا معاينين للأحداث وأنه رأى لا عن وحي إلهي ولكن رأى من ذاته أن يؤلف أيضًا كالآخرين قصة.
ويقرر أنه تتبع كل شيء من الأول بتدقيق، والتتبع والتدقيق يدل على بشرية هذا العمل؛ لأن متقبل الوحي أو الإلهام لا يكون في تقبله لا تتبع ولا تدقيق؛ لأن التدقيق عمل العقل البشري الذي يخطئ ويصيب، فمعنى التدقيق: تحري الدقة، أي الاحتراس من الخطأ؛ وهو ما يدل على إمكانية الوقوع فيه.
ولا يتوافق التعبير “بالتدقيق” مع كتاب موحى به من الله تعالى؛ لأن الوحي لا يتطلب من صاحبه أي عمل لا في تلقيه ولا في أدائه وهو ما يصرح به كتابهم الذي يؤمنون به في كثير من المواضع: مرة على لسان “بلعام بن بعورا” في قوله: “لا أقدر أن أتجاوز قول الرب لأعمل خيرًا أو شرًا من نفسي، الذي يتكلمه الرب إياه أتكلم” سفر العدد. ومرة على لسان “إرمياء” في قوله: “كلمة الرب صارت لي للعار وللسخرية طول النهار؛ فقلت لا أذكره ولا أنطق بعد باسمه؛ فكان في قلبي كنار محرقة محصورة في عظامي فمللت من الإمساك ولم أستطع” سفر إرميا. ومرة على لسان “عاموس” في قوله: “لست أنا نبيًا ولا أنا ابن نبي، بل أنا راع وجاني جميز، فأخذني الرب من وراء الضأن وقال لي الرب: اذهب تنبأ لشعبي إسرائيل” سفر عاموس. وهو معنى قوله تعالى لنبيه- صلى الله عليه وسلم- “وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان” الشورى:52. وقوله: “لا تحرك به لسانك لتعجل به إنّ علينا جمعه وقرآنه” القيامة:17:16وقوله: “ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين” الحاقه:47:44.
وكما استهل “لوقا” إنجيله بالتصريح ببشريته؛ ختم “يوحنا” إنجيله كذلك بنفس التصريح، يقول يوحنا: “هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا ونعلم أن شهادته حق، وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع (أي: المسيح) إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة”.
فـ”يوحنا” يقرر هنا أنه هو الذي يشهد لنفسه، وأنه هو الذي كتب هذا؛ ولا شك أن درجة الدقة في الكتابة هنا يحددها اعتراف الكاتب بأنه لا يظن أن العالم يسع الكتب المكتوبة، فهو يصرح بظنية شهادته، ولا معنى هنا لهذا التقرير من “يوحنا” في نهاية إنجيله إلا إن كان يريد التأكيد على بشرية عمله.
وكذلك الحال بالنسبة لـ “بولس” – والذي تنسب إليه كثير من أسفار الكتاب المقدس -  فهو يصرح بأن ليس كل ما في الكتاب المقدس من وحي الله عندما يفرق فيما كتبه من الكتاب المقدس بين نصيحته الشخصية وبين أقوال الرب؛ فيقول مرة: “أقول لهم أنا لا الرب” الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس ، ويقول أخرى: “فأوصيهم لا أنا بل الرب” السابق، وكذلك عندما يصرح بأنه يعبر عن رأيه الخاص في عدم تحبيذه زواج الأرملة عندما يقول: “ولكن إن مات رجلها فهي حرة لكي تتزوج بمن تريد ……ولكنها أكثر غبطة إن لبثت هكذا بحسب رأيي” السابق، وعندما يقول:” وأما العذارى فليس عندي أمر من الرب فيهن ولكنني أعطي رأيًا” السابق. على أن بولس عندما يقول إن لديه تفويضًا أو أوامر من الله أو على العكس ليس لديه ذلك فإن ذلك لا يعني بالضرورة أمرًا أو تفويضًا أوحي به من الله إليه، ولعله يعني فقط التعاليم التي أعطاها المسيح تلاميذه.
ثم كيف يكون الكتاب المقدس كله موحى به من الله تعالى إلى كتبته المعصومين وبه كثير من الخطابات الشخصية التي تتطرق إلى ما لا فائدة لنا فيه على الإطلاق كما في رسالة بولس الثانية إلى “تيموثاوس” والتي يقول فيها: “الرداء الذي تركته في ترواس عند كاربس أحضره متى جئت والكتب أيضًا ولا سيما الرقوق ….سلم على فريسكا وأكيلا وبيت أنيسيفورس، أراستس بقي في كورنثوس وأما تروفيمس فتركته في ميلتس مريضًا، بادر أن تجيء قبل الشتاء، يسلم عليك أفبولس وبوديس وليتس وكلافدية والأخوة جميعًا”؛ وكذلك رسالته إلى “فليمون” فهي عبارة عن مجرد خطاب شخصي؛ وكذلك  رسالة “يوحنا الرسول” الثالثة فما هي إلا خطاب شخصي يبعث به إلى أحد أصدقائه ويقول له فيه:”أيها الحبيب في كل شيء أروم أن تكون ناجحًا وصحيحًا كما أن نفسك ناجحة ….أرجو أن أراك عن قريب فنتكلم فمًا لفم، سلام لك، يسلم عليك الأحباء،سلم على الأحباء بأسمائهم”!!!.
وإذا كانت الأناجيل المعترف بها الآن في جل الكنائس المسيحية أربعة أناجيل؛ فكيف لنا أن نعتقد أن الله تعالى أراد أن يقص سيرة المسيح أربع مرات بشكل مختلف بل ومتناقض حتى في أهم الأمور؟!. وإذا كان وضع الأناجيل بعضها مع بعض ومقارنتها معًا يجعل كلا منها يكمل الصورة التي يرسمها الآخر ويوضحه أحيانًا فإنه وفي أكثر الأحيان يكشف عن مدى اختلافها وتناقضها مع بعضها.
ثم إن كل إنجيل إنما كتبه صاحبه لا لكي يكمل الأناجيل الأخرى أو يشرحها بشكل أفضل، وإنما كتبه لكي يغني عن الأناجيل الأخرى غناء كاملا؛ ومن ثم بشر كل منهم بإنجيله في مكان خاص؛ بل حرص بعضهم على ألا يبشر في موضع سبقه إليه غيره؛ وهو ما يصرح به “بولس” في قوله: “كنت محترصًا أن أبشر هكذا ليس حيث سمي المسيح لئلا أبني على أساس آخر” الرسالة إلى أهل رومية. . ومن ثم فتلك الصورة المتكاملة وذلك الوضوح الذي يتبدى أحيانًا من مقارنة الأناجيل مع بعضها إنما يأتي عفوًا وبغير قصد.
                
الكتاب المقدس وموقف المجمع :
                  
بل إن دعوى عصمة الكتاب المقدس من التحريف دعوى تقر ببطلانها أعلى الهيئات المسيحية في عالمنا المعاصر.
فها هو المجمع المسكوني للفاتيكان الثاني (1962-1965م) يصف أسفار العهد القديم بالنقصان وباحتوائها على أمور باطلة وذلك في قوله عنها: “إن هذه الكتب رغم ما تحتويه من الناقص ومن الباطل (أو القديم) إلا أنها تحمل شهادات تربية إلهية”. البند (15) في الفصل الرابع من دستور المجمع المسكوني للفاتيكان الثاني (الوحي الإلهي).
غير أن المجمع لم يصغ أية تحفظات مثل هذه بالنسبة للأناجيل، بل على العكس فقد أعلن المجمع في نفس الدستور السابق في البندين (19،18) ما نصه: “لقد اعتبرت الكنيسة في كل مكان وفي كل زمان أن الأناجيل الأربعة هي من وضع الرسل، إن ما كرز به هؤلاء بأمر من المسيح قد نقلوه فيما بعد هم أنفسهم أو بعض من أحاط بهم من المعاونين مدونين إياه بوحي من الروح القدس ….إن الكنيسة المقدسة أمنا قد أصرت دومًا وتصر الآن على التأكيد أن الأناجيل المتعارف عليها هي من الكتب التاريخية من غير أن يساورها أي شك وأن هذه الأناجيل قد نقلت بصدق وأمانة ما قام به يسوع ابن الله (يقصدون المسيح عليه السلام) من أعمال، وما نشر من تعاليم طيلة حياته بين الناس” أ.هـ
ومن هذا المنطلق الكائل بمكيالين للعهدين القديم والجديد بلا أي أساس عقلي أونصي حذر المجمع من إعطاء أية قواعد للتمييز بين الخطأ والحقيقة في التوراة بدعوى أن الكنيسة لا تستطيع أن تتخذ قرارًا بصحة أو زيف المناهج العلمية بحيث تستطيع أن تحل مبدئيًا وبشكل عام مشكلة حقيقة الكتاب المقدس.
 إلا أن مقصودنا هنا ليس الجدل في النظريات؛ وإنما مناقشة أمور ثابتة فعلا كعمر الإنسان على الأرض مثلا والذي يحدده سفر التكوين بما لا يقبل التأويل بـ37أو38 قرنًا من الزمان مخالفًا بذلك أشد المعارف تأسّسًا في عصرنا الحديث.
إن تحذير الفاتيكان هنا من إعطاء أية قواعد للتمييز بين الخطأ والحقيقة في التوراة إنما يطوي في حقيقته خوفًا وتهربًا من إدراج العهد الجديد أيضًا تحت هذا المعيار، وخوفًا وتهربًا من كشف حجم أخطاء التوراة- فهي جزء من الأسفار المقدسة لدى النصارى أيضًا – ولا أهمية بالطبع لمثل هذا التحذير، ولا معنى لمثل هذا الحصر؛ لأن الكتاب المقدس – بعهديه – كأي بناء لا يمكن أن يقوم من جانب ويسقط من جانب آخر، وهو ما يؤكد عليه الكتاب المقدس نفسه على لسان المسيح عليه السلام في قوله: “لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقوني لأنه هو كتب عني فإن كنتم لستم تصدقون كتب ذاك فكيف تصدقون كلامي”. إنجيل يوحنا. . وكذلك في قوله عليه السلام كما يروى عنه انجيل متى: “لا تظنوا أني جئت لأبطل الشريعة أو الأنبياء، ما جئت لأبطل بل لأكمل”. . بل إن وحدة العهدين القديم والجديد هي عنوان البند(16) من الفصل الرابع من نفس دستور المجمع المسكوني للفاتيكان الثاني “الوحي الإلهي”.
إن هذه المواقف المتناقضة التي يتخذها علماء أهل الكتاب أمام ما به من أخطاء ومتناقضات تكشف بوضوح الأصل الإنساني لهذه الأخطاء، واستحالة إمكانية قبولها كجزء من وحي إلهي.
فصدق الله العظيم القائل في كتابه الكريم
( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)
البقرة:111، النمل:64

 د/ جمال الحسيني أبوفرحة
                 أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد بجامعة طيبة بالمدينة المنورة

والله أسأل الهداية لنا أجمعين.

http://0soldiers0.wordpress.com/hakyqatelketab/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق